ملخص المقال
العز بن عبد السلام من العلماء الموسوعيين في القرن السابع الهجري، وانتقل بين الشام ومصر، برع في الفقه والأصول واللغة العربية والتفسير والحديث.
العز بن عبد السلام من العلماء الموسوعيين في القرن السابع الهجري (الشافعية)، وانتقل بين الشام ومصر، وهو الذي قال عنه ابن العماد الحنبلي: «عز الدين شيخ الإسلام... الإمام العلامة، وحيد عصره، سلطان العلماء[1]... برع في الفقه والأصول واللغة العربية، وفاق الأقران والأضراب، وجمع بين فنون العلم من التفسير والحديث والفقه واختلاف الناس ومآخذهم، وبلغ رتبة الاجتهاد، ورحل إليه الطلبة من سائر البلاد، وصنف التصانيف المفيدة»
العز بن عبد السلام مشهور بمواقفه السياسية والجهادية:
1- موقفه من الصالح إسماعيل في دمشق وإنكاره عليه التعاون مع الصليبيين ثم حبسه
2- موقفه من بيع أمراء المماليك في مصر مع نجم الدين أيوب
3- موقفه في الإنكار على محال الخمور
4- موقفه في رفض فرض الضرائب على الشعب زمن السلطان قطز قبيل حرب التتار
5- موقفه في التحميس لمعركة عين جالوت
كتاب قواعد الأحكام في مصالح الأنام (أو القواعد الكبرى):
كتاب في الفقه وأصول الفقه، ويُعد أعظم كتبه وقمة إنتاجه وأعمق بحوثه، وهو الدليل القاطع على إمامة العز في الاجتهاد والأصول، ولذلك قال تاج الدين السبكي في طبقات الشافعية: «ومن تصانيف الشيخ عز الدين "القواعد الكبرى" وكتاب "مجاز القرآن"، وهذان الكتابان شاهدان بإمامته وعظيم منزلته في علوم الشريعة، واختصر القواعد الكبرى في قواعد صغرى والمجاز في آخر».
وهذا الكتاب يقع في مجلدين، جليل القدر، ويدل على طول باع العز في علم الأصول، وبعد تفكيره في سعة الأحكام الشرعية وشمولها، وصلاحها لكل زمان ومكان.
نص في كتاب: قواعد الأحكام في مصالح الأنام للعز بن عبد السلام:
حُقُوقُ الْبَهَائِمِ وَالْحَيَوَانِ عَلَى الْإِنْسَانِ، وَذَلِكَ أَنْ:
1- يُنْفِقَ عَلَيْهَا نَفَقَةَ مِثْلِهَا وَلَوْ زَمِنَتْ أَوْ مَرِضَتْ بِحَيْثُ لَا يَنْتَفِعُ بِهَا،
2- وَأَلَّا يُحَمِّلَهَا مَا لَا تُطِيقُ
3- وَلَا يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا يُؤْذِيهَا مِنْ جِنْسِهَا أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا بِكَسْرٍ أَوْ نَطْحٍ أَوْ جُرْحٍ،
4- وَأَنْ يُحْسِنَ ذَبْحَهَا إذَا ذَبَحَهَا وَلَا يُمَزِّقَ جِلْدَهَا وَلَا يَكْسِرَ عَظْمَهَا حَتَّى تَبْرُدَ وَتَزُولَ حَيَاتُهَا
5- وَأَلَّا يَذْبَحَ أَوْلَادَهَا بِمَرْأَى مِنْهَا،
6- وَأَنْ يُفْرِدَهَا وَيُحْسِنَ مَبَارِكَهَا وَأَعْطَانَهَا،
7- وَأَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ ذُكُورِهَا وَإِنَاثِهَا فِي إبَّانِ إتْيَانِهَا،
8- وَأَنْ لَا يَحْذِفَ صَيْدَهَا وَلَا يَرْمِيَهُ بِمَا يَكْسِرُ عَظْمَهُ أَوْ يُرْدِيهِ بِمَا لَا يُحَلِّلُ لَحْمَهُ.
ومسألة في الكتاب نفسه: "وَإِنْ مَلَكَ حَيَوَانًا يُؤْكَلُ وَحَيَوَانًا لَا يُؤْكَلُ وَلَمْ يَجِدْ إلَّا نَفَقَةَ أَحَدِهِمَا وَتَعَذَّرَ بَيْعُهُمَا احْتَمَلَ أَنْ يُقَدِّمَ نَفَقَةَ مَا لَا يُؤْكَلُ عَلَى نَفَقَةِ مَا يُؤْكَلُ وَيَذْبَحَ الْمَأْكُولَ".
ما فعله العز بن عبد السلام هو عين الشريعة، وكل ما ذكره من أحكام مستخلصٌ من مواقف نبوية شريفة:
فلسفة الاهتمام بالحيوان والطير:
اهتمَّت الشريعة اهتمامًا بالغًا بالحيوان، ليس فقط لأنه مسخر لخدمة الإنسان، وأن هذا هو الأصلح لتحقيق "فوائد" من وراء حسن رعايته، ولكن من منطلق الرحمة والرأفة وحسن الخلق، وإلا فكان من الممكن أن تجد الإحسان فقط إلى الحيوانات التي تملكها، وتحقِّق من ورائها مصالح معينة، ولكننا وجدنا في الشريعة تحفيزًا على حفظ حقوق الحيوان الذي لا نملكه، ولا تربطنا به صلة:
نعم هناك فوائد محصَّلة: فقد قال تعالى مثلًا: ﴿وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾.
ولكن الأصل الشرعي العام نجده في كلام الرسول ﷺ:
«بَيْنَمَا رَجُلٌ بِطَرِيقٍ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ فَوَجَدَ بِئْرًا، فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ، ثُمَّ خَرَجَ، فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ[2]، يَأْكُلُ الثَّرَى[3] مِنَ الْعَطَشِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنَ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِي كَانَ بَلَغَ مِنِّي. فَنَزَلَ الْبِئْرَ، فَمَلأ خُفَّهُ مَاءً، ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ»[4]. قالوا: يا رسول الله، وإنَّ لنا في البهائم لأجرًا[5]؟ فقال: «فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ[6]»[7].
هذه هي القاعدة الشرعية: «فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ»
أهم شيء هو عدم الإيذاء:
روى جابرأن النبي ﷺ مرَّ على حمار قد وُسِمَ[8] في وجهه، فقال: «لَعَنَ اللهُ الَّذِي وَسَمَهُ»[9].
وعن أبي هريرة يقول الرسول ﷺ: «عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ؛ لَمْ تُطْعِمْهَا، وَلَمْ تَسْقِهَا، وَلَمْ تَتْرُكْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ[10]»[11].
وروى سهل ابن الْـحَنْظَلِيَّةِ قال: مرَّ رسول الله ﷺ ببعيرٍ قد لَحِقَ ظَهْرُهُ بِبَطْنِهِ، فقال: «اتَّقُوا اللهَ فِي هَذِهِ الْبَهَائِمِ الْـمُعْجَمَةِ... فَارْكَبُوهَا صَالِحَةً, وَكُلُوهَا صَالِحَةً»[12].
ويقول رسول الله ﷺ: "مَنْ قَتَلَ عُصْفُورًا عَبَثًا عَجَّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ: يَا رَبِّ إِنَّ فُلَانًا قَتَلَنِي عَبَثًا وَلَمْ يَقْتُلْنِي لِمَنْفَعَةٍ"[13].
حتى في الذبح:
فقد روى شَدَّاد بن أوس قال: ثِنْتَانِ حفظتُهما عن رسول الله ﷺ قال: «إِنَّ اللهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ؛ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ, وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ, وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ»[14].
هذا الفكر هو الذي دفع الفقهاء كالعز بن عبد السلام لهذه الكتابات في كتب الفقه والشريعة، وهو ما أفرز في الحضارة الإسلامية مواقف عجيبة:
1- كتب عمر إِلَى حَيَّان بِمصْر إِنَّه بَلغنِي أَن بِمصْر إبِلا نقالات يحمل على الْبَعِير مِنْهَا ألف رَطْل فَإِذا أَتَاك كتابي هَذَا فَلَا أَعرفن أَنه يحمل على الْبَعِير أَكثر من سِتّمائَة رَطْل
2- في “فاس” في القرن السابع الهجري، كانت هناك أوقافا لشراء الحبوب لإطعام الطيور، حتى لا تهلك، عند المرتفع المعروف بكدية البراطيل عند باب الحمراء
3- وكانت مستشفى “سيدي فرج” بفاس، تقوم بمهمة عجيبة وهي علاج طائر “اللقلاق” إذا تعرض للانكسار أو الأذى، فكان الطير يُحمل إلى المستشفى، ويصرف غذاءه لمن يضمده ويطعمه.
4- وفي مدينة فاس خصص وقف على نوع من الطير يأتي في موسم معيَّن، فوقف له بعض الخيِّرين ما يعينه على البقاء، ويسهِّل له العيش في تلك المدَّة من الزمن؛ وكأن هذا الطير المهاجر الغريب له على أهل البلد حقّ الضيافة والإيواء
5- محمد بن موسى الحلفاوي الإشبيلي نزيل فاس (من الصوفية)، والمتوفَّى بها عام 758هـ، أنه دفع به الرفق بالحيوانات المتخذة والأليفة إلى أن يُعِدَّ دارًا يجمعهم فيها ويسهر على إطعامهم بيده.
6- قوافل العلاج في الدولة العباسية لا تعالج الناس فقط، بل تعالج الحيوانات أيضًا.
7- في الدولة العثمانية كانت هناك أوقاف مخصَّصة لعلاج الحيوانات ورعايتها؛ وقد وُجدت نصوص وقفيَّة تُدَلِّل على وجود أوقاف خاصة لتطبيب الحيوانات المريضة، وأوقاف أخرى لرعي الحيوانات المسنَّة والعاجزة، ومنها أوقاف المرج الأخضر
8- وفي الشام وقفٌ للقطط الضالة سميت بمدرسة القطاط، وهي في القيمرية؛ ووقفًا للكلاب الشاردة يؤويها ويداويها، وهو في حي "العمارة"[15].
تطبيقات عملية:
1- تربية الأطفال على الرفق بالحيوان
2- رعاية الحيوانات الأليفة في البيت وعدم تعريضها للإيذاء، ويشمل هذا القطط، وكلاب الحراسة، والعصافير، والسلاحف، والأسماك
3- رعاية القطط في الشوارع
4- علاج الحيوانات عند البيطريين
5- إطعام الحيوانات في حديقة الحيوان
6- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الناس في أمر الحيوانات
ويقول رسول الله ﷺ: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا.. أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا.. فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ.. أَوْ إِنْسَانٌ.. أَوْ بَهِيمَةٌ.. إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ!"[16].
[1] الذي لقبه بهذا اللقب ابن دقيق العيد الفقيه المشهور المصري من أهل قوص بقنا بالصعيد، وهو من تلامذة العز بن عبد السلام.
[2] يلهث: يرتفع نفسه بين أضلاعه، أو يخرج لسانه من شدة العطش والحَرِّ، انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة لهث 2/184.
[3] الثرى: التراب الندي، وقيل: أي يَعَضُّ الأرض. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة ثرا 14/110.
[4] شكر الله له: أي أثنى عليه فجزاه على ذلك بأن قَبِلَ عمله وأدخله الجنة. انظر: ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 1/278.
[5] يعنون: أيكون لنا في سقي البهائم والإحسان لها أجر؟!
[6] كل كبد رطبة أجر: أي حية يعني بها رطوبة الحياة.
[7] البخاري عن أبي هريرة: كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم (5663) ، ومسلم: كتاب السلام، باب فضل سقي البهائم المحترمة وإطعامها (2244) .
[8] وَسَمَه: إذا أثَّر أو علَّم فيه بكَيٍّ، والوسم والسمة العلامة المميزة للشيء، انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة وسم 12/635.
[9] مسلم: كتاب اللباس والزينة، باب النهي عن ضرب الحيوان في وجهه ووسمه فيه (2117) .
[10] خشاش الأرض: المراد هوام الأرض وحشراتها من فأرة ونحوها. انظر: ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 6/357.
[11] البخاري: كتاب المساقاة، باب فضل سقي الماء (2236)، ومسلم كتاب السلام، باب تحريم قتل الهرة (2242)، واللفظ له.
[12] أبو داود: كتاب الجهاد، باب ما يؤمر به من القيام على الدواب والبهائم (2548) ، وأحمد (17662) وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الصحيح. وابن حبان (546) ، وصححه الألباني، انظر: السلسلة الصحيحة (23) .
[13] النسائي (4446)، وأحمد (19488)، وابن حبان (5894)، والطبراني في المعجم الكبير (7245)، والبيهقي في شعب الإيمان (11076)، والضحاك في الآحاد والمثاني (1572).
[14] مسلم: كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب الأمر بإحسان الذبح والقتل وتحديد الشفرة (1955) ، وأبو داود (2815) ، والترمذي (1409) .
[15] علي طنطاوي: ذكريات 7/312.
[16] البخاري: عن أنس، كتاب المزارعة، باب فضل الزرع والغرس إذا أكل منها (2195)، ومسلم: كتاب المساقاة (1553)
التعليقات
إرسال تعليقك